
اقضي أغلب وقتي بعد العودة من العمل إما في القراءة أو مشاهدة الأفلام أو اللعب مع حفيدي بلعبة الثعبان والسلم، وكما يسميها العراقيون “الحية والدرج”. برمية نرد واحدة يمكنك أن ترتفع في أحد السلالم الثمانية، وبرمية أخرى قد تبتلعك الأفعى إلى الأسفل. من النادر أن أمارس نشاطاً غير هذه النشاطات، ولكن من النادر جداً أن أتصفح إنستغرام أو تيك توك. أكره المقاطع السريعة فهي تجعلني أشعر كأنني كرة تتقاذفها أقدام اللاعبين، فإذا ارتفعت، ارتفعت معها، وإذا هوت، هويت معها. قبل أيام، كنت ضحية للمقاطع السريعة، لكن الضحايا لم اكن أنا فقط، بل كانوا العراقيون المصابون بمتلازمة داون.
أمسك جهاز الهاتف بيدي، وبإبهام اليد الأخرى أحرك الشاشة إلى الأعلى. مع كل حركة إبهام يظهر مقطع فيديو جديد. عندما يعجبني مقطع، أتركه حتى يكتمل، وإذا لم يعجبني، أتابع تصفح المقاطع. قد يبادر أحدكم ممن لديهم هوس باللغة العربية ويقول: “التصفح يكون للورق أو للكتاب وليس للهاتف”، ولكني لم أجد كلمة تناسب هذه العملية غير “التصفح”.
المقاطع تظهر تباعاً وبصورة عشوائية، فتيات هنديات يرقصن، نصائح تدعو إلى ألا ندقق في كل شيء، عيدان ثقاب تشتعل بصف مرصوص، يُسحب عود وتتوقف مسيرة النار، وتظهر عبارة تقول: “الانسحاب في بعض الأحيان ليس هزيمة”. كلها مقاطع لم تروق لي إلا مقطع واحد وهو خبر مفاده: فتاة مصابة بمتلازمة داون تصبح مضيفة طيران أرضي في أستراليا.
الخبر حفزني على أن أستمر بالتصفح أكثر، وبما أن الخوارزميات تظهر لي نفس الموضوع، ظهر مقطع آخر بعد عدة مقاطع متفرقة حول أول مذيعة مصرية مصابة بمتلازمة داون وهي رحمة خالد. بدأ قلبي يخفق وبدأت أتفاعل مع الموضوع بعدما ظهر أول شاب سعودي يعمل في مقهى. توالت المقاطع عن شباب في غزة مصابين بالمتلازمة ويعملون في صناعة الدمى. ذهب حفيدي إلى النوم وتركني أتصفح وأنا أشعر بالفرح، فرح نابع من أن البشر يطبقون العدالة على الأرض.
الخوارزميات لا تميز الجيد من السيئ، بل تتبع الموضوع فقط. مرّت أمام عيني مقاطع كثيرة، من بينها مقطع مميز للشاعر كاظم إسماعيل كاطع: “يا فشلتي من القمر، بأسمه شكثر ناديته، عاگول يطلعلي الورد، لو أدري ما تانيته”. إلا أن ظهرت مقاطع عراقية تسخر من شباب مصابين بمتلازمة داون أمام أعين أهاليهم وأقاربهم، سخرية وتنمر وضحك على طريقة كلامهم. لم يكن هناك مقطع واحد يشيد بهم أو يكن لهم الإحترام، من هنا بدأت أشعر بالإحباط، ودار في ذهني السؤال: لماذا هذا الفرق في السلوك بيننا نحن العراقيين وبين الآخرين؟.
الموضوع فتح باب البحث عن الأسباب. في مجتمعنا، للأسف، يُنظر إلى الاختلاف على أنه شيء غير طبيعي، وتُستخدم السخرية كوسيلة للتعامل مع ما يعتبرونه غير مألوف. هذا يعود إلى ثقافة قديمة حيث كانت السخرية تُعتبر طريقة لإظهار القوة أو التفوق، وبعض الأشخاص يمارسونها للسيطرة على الآخرين أو للحصول على شعور زائف بالتفوق.
ضعف البرامج التعليمية والتربوية التي تعزز التعاطف والتفاهم تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة يمكن أن يؤدي إلى استمرار السلوكيات السلبية، ومع غياب التشريعات الرادعة، كلها تجعلهم أضحوكة للأسف، وتجعلني أشعر بالإحباط من مجتمعي، مثلما أصاب الشاعر كاظم إسماعيل كاطع الإحباط وكتب هذا البيت: “يا فشلتي من القمر، بأسمه شكثر ناديته، عاگول يطلعلي الورد، لو أدري ما تانيته”.