رغم وجود الكثير من المقاهي و الاماكن الجميلة في الحي القديم في العاصمة الفيتنامية لكن مقهى واحد كان تشدني اليها ، ولا أريدُ لأحد أن يسألني عن الأسباب ، أنه التعلق في الأماكن ، رائحة المكان واشياء غيبية تجعلني أقطعُ نصف ساعة سيراً على الاقدام من الفندق إلى المقهى ، أجلس هناك يومياً طوال فترة اقامتي ، الشاي بالعسل والزهورات والشاي المنقوع بالياسمين وشاي الاناناس ، هكذا كانت تسير الايام خلال فترة اقامتي هناك ، موعد لم يكن مخطط له هو الساعة الثامنة مساءا ، موعد مع الشاي .
المسافة بين الفندق والمقهى لم تكن مملة ،حيث المحال متنوعة وصغيرة ومقاهي ومتاجر وفتيات تنادي : سن جاو ، بمعنى أهلاً ، تطلب عمل مساج امام الناس وليس في غرف مغلقة ، مطاعم مكشوفة في الهواء الطلق على طريقة جنوب شرق اسيا ، فيتناميون يتحدثون بأصوات كأنه صوت القطط ، كل كلمة من حرفين ، لم يكن الطريق ممل لكن أرتفاع الرطوبة تجعلني أصل الى المقهى بمزاج متعكر.
أقضي نهاري ما بين المتاحف والمعابد البوذية والبحيرات الصغيرة او مسارح الموسيقى التي تقدم العزف والاغاني بمسرح في الماء ، و أعود الى الفندق في المساء ومن ثم أعاود الخروج الى المقهى أتفقد أخبار بغداد ومنغصاتها و اتّصالات مع الاهل والاصدقاء أثناء تناول أكثر من شاي ، هكذا سارت الامور الى أنه بمحض الصدفة اكتشفت ان المقهى تبعد عن الفندق مائة وخمسون متراً عن الفندق تقريباً أي أقل من خمس دقائق او أقل ، الخروج من الفندق بأتجاه اليسار تكون المسافة نصف ساعة وبأتجاه اليمين أقل من خمس دقائق ، أكتشفتُ أنني ادور دورة كاملة امام الفندق ، أكتشاف مثير بالتوقيت الخطأ .
من الصعب ان اصف لكم مجموعة المشاعر بعد هذا الأكتشاف ، ما بين اللوم على نفسي بأستخدام : ماذا لو أكتشفت هذا من اول يوم ولم اتعذب طيلة الايام الماضية ، شعور آخر بان : احمد الله باقي الايام سيكون الامر أسهل وشعور آخر هو التأنيب باني قصرت بالبحث عن طريق أقصر و الا كيف غاب عني ، مجموعة من المشاعر جعلتني لا اثق بقدراتي في ما يخص معرفة الأشياء .
في اليوم التالي بعد الأكتشاف بدأت اذهب واعود الى الفندق بشعور مختلف ، أرتياح من ان المقهى قريب مني ،هذا الأكتشاف جعلني أتأمل في الحياة وكيف ان الحقيقة قد تكون قريبة منا جداً ولكننا لا ندركها ، نحن غالبا ًما نبحث بعيداً عن الاشياء التي نريدها بينما هي في متناول أيدينا ، حقيقة لها وجه آخر مخفي عنا ، حبيب يريد الاقتراب منا ونحن لا نشعر بوجوده ، فرصة للتغيير قريبة منا ولا ندركها . قد نقضي اوقاتاً طويلة نبحث عن السعادة او النجاح او السلام الداخلي في حين هو أقرب مما نعتقد .
درس بسيط لكنه عميق جدا ، نحن نميل الى تعقيد الامور وننظر بعيد جداً بدلاً من ان نتفحص ما حولنا ، قد تكون الاجابات التي نبحث عنها واضحة وجلية ولكننا نفقد القدرة على رؤيتها بسبب إنشغالنا بالبحث في اماكن بعيدة .
في النهاية، تبين أن المقهى الصغير لم يكن مجرد مكان لأحتساء الشاي ، بل كان نقطة تحول في حياتي ، حيث تعلمت أن الأشياء الجميلة والجوهرية قد تكون دائماً بالقرب منا، تنتظر فقط أن نلاحظها .
 
		 
															 
		 
		 
		 
		 
		 
		